الأحلام النهارية

10/08/2013 10:01

أحلام اليقظة

مصدر جديد للطاقة النفسية يعاد اكتشافها من جديد

 

الدكتور سامر جميل رضوان[1]

من منا لا يعرف ذلك الانعطاف نحو الداخل، تلك الخيالات التي تقتحم عقلنا فتسرقنا معها إلى مغامرات شتى نكون نحن أبطالها، فتخفف عنا الملل الذي نشعر به و عبء الحياة اليومية وإرهاقاتها وترمم لنا مشاعرنا بقيمتنا الذاتية بل و ربما تنتقم لنا من مدير متسلط أو تحقق لنا رغبة دفينة لا نستطيع تحقيقها في الواقع . ومن منا لا يعرف كذلك تلك الأحلام والرغبات من الماضي التي أصبح قسم منها اليوم حقيقة كنا حتى الأمس القريب نعتبرها  مجرد  أضغاث.  أحلام  إنها أحلام اليقظة  ذلك المكان الأكثر خصوصية والذي نهرب إليه وقتما نشاء حتى في الظروف الصعبة. ولكن من منا يقر بأنه غير سعيد  وغير راض وبالتالي فهو بحاجة للهروب إلى عالم الخيالات والأوهام؟  وكل واحد منا قد يخجل لأسباب كثيرة من البوح بخيالاته للآخرين ويعدها جزءاً من خصوصياته التي لا يرغب أن يشاركه فيها أحد.

  وفي الحقيقة فإن أحلام اليقظة لم تلق الاهتمام العلمي الكافي لزمن طويل وكانت تعتبر حتى وقت قريب مضى هروباً من الواقع  وتعويضاً بديلاً للرغبات غير المشبعة ودليلاً على عدم كفاية الواقع و على الهروب منه. واعتبر الإنسان السوي هو الذي يقف على أرض الواقع ويواجهه و لا يحتاج إلى الأحلام النهارية هرباً منه. وما زلنا حتى اليوم نقرأ أو نسمع هنا وهناك من يدَّعي أن أحلام اليقظة دلالة على عدم السواء والهروب من الواقع، على الرغم من أننا جميعنا نحلم أحلام اليقظة.

وعلى الرغم من كل ذلك  تلاقي دراسة أحلام اليقظة اليوم عناية الباحثين واهتمامهم. فقد وجد هؤلاء أنها تلعب دوراً في تحقيق توازننا النفسي وفيها تكمن طاقة رهيبة تساعدنا على حل مشكلاتنا ومواجهة متطلبات حياتنا وخصوصاً إذا ما ارتبطت بالواقع. ويمكن القول باختصار إن من يحلم أحلاماً نهارية يعيش أكثر صحة ويكون أكثر قدرة على التكيف .

 إنها سيناريوهات الأفلام التي ينتجها لنا دماغنا البشري المعقد الذي منحنا إياه  الله عز وجل ومنحه طاقات هائلة لا تعرف لها حدوداً غير تلك التي حددها لها خالقها.

ولكنها على عكس الأحلام الليلية التي شغلت الإنسان منذ أن خُلِقَ على وجه هذا الكون حتى يومنا هذا على جميع المستويات الشعبية والعلمية، فقد اعتبرت أحلام اليقظة لوقت طويل على أنها نوع من فضلات الوعي. واعتبر العلماء أن الإنسان السعيد والمتوازن  لا يمكن أن يحلم أحلاماً نهارية وإنما من يحلم الأحلام النهارية هو ذلك الذي تنقصه حاجات متنوعة وغير القادر على مواجهة الواقع بمتطلباته وضغوطه  فيهرب إليها طلباً للحماية . وكل رغبة غير مشبعة تشكل مادة خصبة للخيالات والأحلام النهارية، حيث يلعب التخيل هنا دور المصحح والمعدل للواقع المرير أو المُحبِط.

ومنذ أن بدأ العلماء بالاهتمام بأحلام اليقظة توصلوا إلى معارف واسعة حول وظائفها ووجدوا  أنها  تشكل مصدراً واسعاً من مصادر العلم ومعرفة الذات. ولعل من أهم ما توصل إليه الباحثون في هذا المجال يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

  • ليست أحلام اليقظة مجرد أوقات مستقطعة نلجأ إليها هرباً من الواقع القاسي، وإنما هي نتاج معقد للخيالات التي تنشأ  عندما نركز انتباهنا على عالمنا الداخلي. وهنا يمتزج الواقع بالرغبات "الخالصة"، حيث تتفاعل الصور مع الذكريات والدوافع والمشاعر في هيئة جديده تساعدنا على استيعاب أو تمثل الواقع وفهمه والتكيف معه.
  •  إنها نوافذ مطلة على عالمنا الداخلي وعندما نتمكن من رؤية ما يجول في عالمنا الداخلي من مشاعر ورغبات فإننا نكتشف أسرارنا الخفية والكامنة و نكتشف عجزنا ونفهم مشاعرنا المعقدة.
  •  إنها عامل مهم في تحقيق التوازن الانفعالي الداخلي. فمن خلال مواساتها لنا أو تحقيق سعادة متخيلة أو نجاح ما أو حتى تنفيس انفعالي معين فإنها تقوم بدور الموازن والمعدل لهذه الانفعالات وقد توفر علينا سورة انفعالات عارمة نصبها في الواقع على مدير متسلط أو مرؤوس غير كفء فتلحق فينا الأذى والضرر.
  •  غالباً ما تكون أحلام اليقظة " عملاً " أكثر من كونها "تسلية". فباستثناء الفئة العمرية الواقعة بين 17 و 23 سنة التي تحلم أكثر بالمغامرات العاطفية، وجد العلماء أن   أحلام الفئات العمرية الأخرى تدور حول  تخطيط البرامج والإنجاز و حل المشكلات المتنوعة. ويرى باحث أحلام اليقظة ليونارد غيامبرا  أحلام اليقظة أن الخيالات تلعب بالنسبة للدماغ دور "حافز العقل" وتشكل إمكانية لتنظيم وتنسيق المعلومات وتصميماً إبداعياً  مفيداً من أجل التغلب على مشكلات الحياة اليومية.
  •  إننا نحلم أحلاماً نهارية أكثر مما نعتقد. فنسبة أحلام اليقظة تشكل 40% من النشاطات اليومية. وبقدر ما تفاجئنا هذه النتيجة فإنها تشير إلى السرعة التي ننسى بها هذه الأحلام أو نعتبرها أشياء لا قيمة لها.
  •  وعلى الرغم من أنها قد تبدو هروباً من الواقع إلا أننا لا نهرب عادة بعيداً. فغالبية أحلام اليقظة تدور حول أمور الحياة اليومية والمستقبل القريب ويندر أن نهرب إلى الماضي البعيد. 
  • وعلى عكس النظرة السابقة لأحلام اليقظة فإن من يحلم أحلام يقظة يعيش أكثر صحة  وأكثر واقعية من الذين لا يحلمون أحلاماً نهارية. فقد وجد العلماء أن من لا يحلم أحلاما نهارية سرعان ما يقع فريسة للملل ويبحث عن مثيرات خارجية للتخلص من هذا الملل. وفي بعض الأحيان قد تكون هذه المثيرات الخارجية مضرة بالصحة. فقد وجد الباحثون أن  المجرمين والمدمنين  يعيشون بدرجة كبيرة " نحو الخارج ". إنهم أكثر توتراً وقلقاً وأقل تحكماً بأنفسهم وأكثر حاجة للمثيرات الخارجية من الأشخاص الذين يحلمون أحلام يقظة ويغتنون داخلياً من خلال خيالاتهم التي تساعدهم على تنظيم وضبط الواقع. وحتى فرط الشهية للطعام أو الإدمان على مشاهدة التلفزيون يبدو أن لهما علاقة بنقص القدرة على التخيل. إن من لا يستطيع أن يصنع مقابل العالم الخارجي عالماً داخلياً من الخيال فلن يستطيع وضع بدائل سلوكية ممكنة و سيواجه مثيرات العالم الخارجي عاجزاً. أما من يحلم أحلاماً نهارية فلن يكون مأسوراً باللحظة  الراهنة ويستطيع أن يقدم بدائل فاعلة لمواجهة الواقع.
  • تمثل أحلام اليقظة مسرح عمليات تدور فيه تدريبات  السلوك العملي والمستقبلي. ففي أحلام اليقظة تنشأ سيناريوهات حول خطوات تنفيذ برامج الحياة و حول الأهداف البعيدة. فنحن نسرح بسرور في مشاهد النجاح والسعادة التي نتخيلها. وفي الطفولة والمراهقة تدور هذه السيناريوهات حول خيالات ضخمة من البطولات والشهرة. ونتحدث في علم النفس هنا عن التباعد بين الصورة الواقعية والمثالية للمراهق، بين الرغبة والواقع الذي تنشأ عنه غالبية مشكلات المراهقة. غير أنه في مجرى الحياة تصبح هذه الخيالات أكثر واقعية وبالتالي تمنح السلوك الملموس طاقة من أجل مواجهة الحياة ومشكلاتها.

وأحياناً تنزلق مثل هذه الأحلام النهارية في صراع مع بعضها. إذ يمكن للرغبة بالمغامرة وعدم الارتباط والعيش عيشة مثيرة أن تتناقض مع الرغبة في الاستقرار وتأسيس أسرة والاستمتاع بفوائد هذا الاستقرار. وغالباً ما تتحقق الرغبة الثانية في حياة غالبية الناس وتظل الرغبة الأولى مجرد خيال يواسي الإنسان. غير أنها إذا ما عادت للظهور بشدة وبتكرار كبيرين فإنه يمكن اعتبارها إشارة إلى حدوث انتفاضة جديدة أو تغير قادم في برنامج الحياة.

 

في عمر 8 أشهر يتمكن الطفل من الربط بين " المحيط الخارجي " والتفكير  من خلال الصور  والرموز. وبدءاً من هذه السن يمكن القول أن الطفل يستطيع الانعطاف بين الحين والآخر نحو عالمه الداخلي. وتتركز غالبية خيالاته هنا على الرغبات الطفلية التي تدور حول الإشباع البديل ومواساة النفس. ومع التقدم في العمر تصبح أحلام اليقظة أكثر تعقيداً. فمن خلالها نتعلم القيام بالأدوار المختلفة في حياتنا اليومية ونعدلها ونحسنها. والصور التي نتخيلها في أحلامنا النهارية لا نستمدها  من خبراتنا الذاتية فحسب وإنما من مثلنا العليا في مجتمعنا وقيمنا الدينية وثقافتنا ومن القصص والأفلام ..الخ.

في كثير من الحالات يمكن لأحلام اليقظة فعلاً أن تكون الدواء الشافي ضد الملل و مواساة للإحباط وإشباعاً بديلاً للرغبات غير المحققة أو غير ممكنة التحقيق، إلا أنها يمكن أن تشير كذلك إلى وجود ثغرة انفعالية في حياتنا أو أنها أحياناً تقتحم مجالات في حياتنا نرغب بنسيانها وعدم التفكير بها. ولكنها من ناحية أخرى تقوم بدور التنفيس حيث تتيح لنا خبرة مشاعر ودوافع لا نستطيع بأي شكل من الأشكال أن نعيشها في الواقع.  فعندما يجرح أحدهم مشاعرنا الذاتية وكرامتنا ولا نستطيع لأسباب كثيرة أن ترد له الكيل، فإنه يمكننا على الأقل القيام بذلك في خيالنا. ففي خيالاتنا نستطيع فتح مغارة علي بابا وامتلاك كنوزها  والتغلب على الأربعين حرامي أو نمتلك مارد مصباح علاء الدين الذي يحقق لنا كل ما لا نستطيع تحقيقه بسرعة وبسهولة. وعندما نتعرض لأزمة ما أو لصدمة انفعالية فإن أحلام اليقظة تساعدنا في التغلب عليها. ومن خلال استعراض وتقليب أزمات الماضي في ذهننا فإنه يمكننا " تصحيح " ذكريات هذه الأزمات والتخفيف من أثرها. ومن المعروف في علم النفس أن خبرات الطفولة تلعب دوراً كبيرا في نشوء الاضطرابات النفسية في سن الرشد، ولكن  وعلى الرغم من أن كثير من الأطفال يمرون بخبرات طفولية صادمة أو يعيشون طفولة غير سعيدة وعلى الرغم من ذلك فقلة منهم تعاني من اضطراب نفسي ما فيما بعد. وتعزى إحدى الأسباب إلى أن معظم الأطفال يتجاوزون طفولتهم التعيسة من خلال خيالاتهم. فهم يقومون في خيالهم بصنع والدين محبين وعالم أجمل يخفف عنهم مرارة واقعهم وبالتالي احتمال حدوث اضطراب نفسي ما في المستقبل.

 

ولكن هل كل أنواع الأحلام النهارية والتخيلات مفيدة ؟

بالتأكيد لا. فعلى الرغم من أن أحلام اليقظة قد تدور في غالبيتها حول تحقيق الرغبات والأمنيات إلا أنه من خلالها أيضاً يتم تخطيط السلوك الراهن والمستقبلي وتحديد التوقعات والنتائج. وعلى الرغم كذلك من أن وظيفتها تجميل الواقع والتخفيف من صعوباته إلا أن فائدتها تكمن في عدم الاغتراب عن الواقع كثيراً.  والدراسات النفسية المتنوعة تشير إلى أن الأحلام النهارية والخيالات البعيدة عن الواقع لا تقود إلى النجاح بل على العكس. وتعني هذه النتيجة بأن أحلام اليقظة التي لا تأخذ أسوأ الجوانب بالحسبان تقود إلى الفشل والإخفاق. فالإنسان القادر على تصور نقاط ضعفه وانتكاساته أقدر على مقاومة مشكلات وصعوبات الحياة اليومية من غيره. وبالفعل هناك دراسات تشير مثلاً إلى أن الأطفال المرضى بأمراض مزمنة ( كالربو والسرطان ..الخ ) والذين كانوا يتخيلون خيالات إيجابية حول مجرى مرضهم كانوا أقل التزاماً باتباع التعليمات الطبية وأقل عناية بأنفسهم من الأطفال الذين كان محتوى خيالاتهم أقرب للسلبية. وبالتالي فإن مجرى المرض كان لدى هذه المجموعة الأخيرة أفضل مما هو الأمر عليه لدى الفئة الأولى. وحتى في مجال الإعاقات الجسدية بأنواعها المختلفة يمكن لأحلام اليقظة أن تمتلك وجوهاً سلبية وإيجابية في الوقت نفسه. فالمعاق الذي يكون محتوى أحلامه النهارية متمركزاً في غالبيته على إنكار وضعه وعدم الاعتراف بقدراته وإمكاناته الحقيقية قلما يساعد نفسه على تجاوز أزمته في حين أن المعاق الذي تغلب في أحلامه النهارية تصورات حول كيفية التعامل مع إعاقته واستغلال الإمكانات الأخرى المتاحة وتخطيط مجرى حياته بما يتناسب مع نوع الإعاقة يتلاءم بسرعة مع وضعه ويجد في أحلامه النهارية الدافع المحرك نحو تحقيق النجاح والرضى في مجالات حياته الأسرية والمهنية.   وفي المجال المهني كذلك وجدت الدراسات أن من يتوقع منذ البداية حياة مهنية سهلة والنجاح السريع يعاني من مشكلات أكثر من ذلك الذي يتوقع أن تكون البداية صعبة. فهؤلاء يسعون بصورة أفضل نحو تحقيق النجاح المهني والتخطيط له ويكونون وأكثر صبراً وتحملاً للانتكاسات. وبالتالي يحققون النجاح بشكل أسرع من أولئك الذين يتوقعون التحقيق  السريع له.

وهذا لا يعني أن أحلام اليقظة ذات المحتوى الإيجابي غير مفيدة. بل على العكس إنها ضرورية لنشوء الرغبات والأماني في البداية. ومن أجل أي هدف في الحياة نحتاج إلى "محفزات" إيجابية ولكنها تبقى كفقاعة الصابون إذا ما ابتعدت كثيراً عن الواقع. وإذا ما أردنا ألاّ تكون أحلامنا النهارية مجرد فقاعات صابون عائمة في الهواء تنفجر عند أقل صدمة ممكنة، فإننا نحتاج إلى   قدرات نفسية ثلاث كما يقول الفيلسوف إيرنست بلوخ في كتابه " مبدأ الأمل ":

  • أحلام اليقظة التي تفتح لنا في البداية عالم الإمكانات و ما هو قابل للتمني
  • الواقعية من أجل التغلب على المعوقات التي تقف في طريق تحقيق الرغبات
  •  القدرة على التخيل من أجل دمج ما نحلم به وما نعيشه في واقع جديد.

 


[1] أستاذ مساعد في قسم الصحة النفسية - كلية التربية - جامعة دمشق، متخصص في علم النفس الإكلينيكي.

 

للخلف