التشخيص النفسي

التشخيص النفسي

التشخيص النفسي-كتاب جامعي

من الكتاب:

 

الفصل الرابع

طُرُق الحُصُول على المَعْلُومَاتِ التَشّخِيصيَّة

1. مقدمة

يراجع شخص ما المُتخصص النَفّسيّ أو يَتِم تحويله للمُتخصص النَفّسيّ بهدف إجراء تَشّخِيص نَفّسيّ يتعلق بمسألة ما من المسائل النَفّسيَّة التي تهم المراجع أو الجهة المحولة والتي تطلق عَلَيها تَسْمِيَة الجهة صاحبة التَكْلِيف، فيعمل المُتخصص النَفّسيّ عبر مَا يُسَمَّى بالجَلْسة التَشّخِيصيَّة على الحُصُول على المَعْلُومَاتِ التَشّخِيصيَّة المُهِمَّة بِالنِّسْبَةِ   للمسألة المطروحة باستخدام طُرُق أو أدَوَات مُخّتَلِفَة، منها طُرُق القِيَاس السَيكُومتري التي تم التعرض لها في الفصل الثالث والتي تعد التي تعد ركناً أساسيّاً لا يُمْكِن الاستغناء عنه في الحُصُول على المَعْلُومَاتِ التَشّخِيصيَّة. إلا أن التَشّخِيص النَفّسيّ، والإكلينيكيّ مِنْهُ بشكل خاصّ لا يقتصر على هذه الأَدَوَات وحدها وإنما يستخدم أدَوَات وطرق أخرى متنوعة تطلق عَلَيها تسميات مُخّتَلِفَة كالسبر وتاريخ الحالة أو التاريخ المَرَضيّ و مُلاحَظَة السُلُوك والمُقَابَلات. وسيركز هذا الفصل على السبر وتاريخ الحالة وملاحظة السُلُوك، والمُقَابَلات، حيث تمت الإشارة في الفصل الثالث إلى المَقَاييس النَفّسيَّة (Amelang,2006).

 

2. الجَلْسة التَشّخِيصيَّة

الجَلْسة التَشّخِيصيَّة هي أسلوب أو طريقة لجمع المَعْلُومَات يَتِم فيها ومن خلال المُقابَلَة بين المُشًخِّص والمراجع تحفيز المراجع عن طريق أسْئِلَة هادفة على إعطاء بَيَانَات حَولَ نفسه. وهذا يعني أن هذه الجَلْسة حيث يصف من خلالها المَفْحُوص مشكلته الفرديَّة تعتمد على السُؤَال أو الاِسْتِفْسار. و ”الاِسْتِفْسار“ مفهوم شامل يشتمل كُلّ الطرق التَشّخِيصيَّة لجمع المَعْلُومَات، فهو المفهوم العام للسوابق أو لتاريخ المَرَض anamnesis وللسبر Exploration أو للمُقابَلَة Interview أو للجَلْسة القَائِمَة على القَرَار. وهذه الأشكال لا يُمْكِن فصلها عن بعضها بشكل كامل دائماً، فالاِسْتِفْسار يشتمل بشكل عام على هذه الجوانب كلها.

وفي المحيط الناطق بالألمانيَّة يَتِم التفريق بين هذه المفاهيم كما سنرى أما في المحيط الناطق بالإنجليزية فلا يَتِم التفريق بينها وتجمع كلها تحت مصطلح المُقابَلَة Interview. والتفريق بين هذه الأشكال يتعلق بالمسألة المطروحة على التَشّخِيص وبالمَعْلُومَات التي يسعى المُشَخِّص للحُصُول عَلَيها. ومن هنا يُمْكِن إدراج كُلّ الأشكال السابقة تحت عنوان المُقابَلَة أو الجلسة التشخيصية: سواء كانت لأغراض السِيْرَة الذَّاتية أم السبر أم المتابعة أم التَشّخِيص الإكلينيكيّ. ومن هذه الناحية تلعب المُقابَلَة التَشّخِيصيَّة النَفّسيَّة دوراً كبيراً في التَشّخِيص النَفّسيّ الإكلينيكيّ (Rentzsch & Schütz, 2009).

 

 

2.1 التاريخ المَرَضيّ

 يعني التاريخ المَرَضيّ أو السوابق المرضية -تاريخ الحالة [1]anamnesis- تَذَكُّر السوابق، وهو يستند إلى عَمَلِيَّة الحُصُول على البَيَانَات وعلى النتيجة النهائيَّة لهذه العَمَلِيَّة. ويرى جِزء كبير من محاولات التعريف الطبي ”السوابق anamnesis“ على أنها التاريخ السابق لِلْمَرَض، أي ظهور وتعاقب علامات المَرَض ووجود الظروف المسببة الممكنة. وقد تم توسيع هذا المفهوم في عِلْم النَفْس إلى أبعد من مجرد التاريخ المَرَضيّ ليشتمل تَوْضِيح الوضع الحياتي ككل للمراجع؛ المَرَضيّ وغير المَرَضيّ في الماضي والحاضر، والذي قًدْ يكون على دَرَجَة من الأَهَمِّيَّة بِالنِّسْبَةِ   للتَصّنيِف التَشّخِيصي والدلائل العِلاجيَّة والتخطيط للعلاج. وتطلق عَلَيه في عِلْم النَفْس تَسْمِيَة دراسة الحالة أو بَيَانَات تاريخ الحالة (السِيْرَة الذَّاتية) Biographical Data. ويَتِم الحُصُول على هذه البَيَانَات من الشَخْص نفسه أو من شخص آخر (كالأقارب والأهل وغيرهم) أو من الوثائق الرسمية الصحية والمَدْرَسِيّة وغيرها. ويسأل تاريخ الحالة عن الوقائع والحقائق في حياة الشَخْص وتوجد عدة طُرُق للحُصُول على السوابق المرضية وتاريخ الحالة منها الاِسْتِفْسار عن المجالات التالية من المَوْضُوعَات على سبيل المثال:

 السبب الراهن للمراجعة أو لتطور السُلُوك المشكل: ما الذي قاد المراجع إلي؟ والسُؤَال عن الشكاوى والاِضِّطِرابات والأمراض الأخرى: مما يشكو المراجع؟ والسُؤَال عن الوضع الأُسَّرَي والمحيط الاجتماعي الاقتصادي وعن الحمل، والولادة والنُمُوّ الطفولي المبكر و نَمَط التربية الوالديَّة و مجال الاتصال ووقت الفراغ ومجال المدرسة والإنجاز والمجال جِنْسِيّ النَفّسيّ...الخ. ويُقَدِّم الشكل التالي تلخيصاً لإطار المَوْضُوعَات التي يتناولها الاِسْتِفْسار.

وفي حال مسح التاريخ المَرَضيّ عِنْدَ الراشدين عموماً والأطفال بشكل خاصّ ينبغي الأخذ بعين الاعتبار احتمال عَدَم دقة البَيَانَات التي يحصل عَلَيها المشخص بسبب إخفاء الطفل أو الوالدين أو الأقارب هذه الأمراض، حيث تعد عيباً أو نقصاً ينبغي عَدَم الحديث عنه. وعلى المشخص أن يكون حذقاً في اِسْتِخْلاص الصحيح من المَعْلُومَات. وغالباً ما يَتِم اِسْتِنْتَاج التشكيلات الصِرَاعيَّة (صِرَاعات البنت-الأم على سبيل المثال) لاحقاً بعد جلسات عديدة، فهذه التشكيلات لا تظهر منذ اللحظة الأولى وتحتاج إلى الصبر والحس المِهْنِيّ في سبرها واستقصائها.

2.1.1 صلاحية بَيَانَات تاريخ الحياة

ما مدى دقة وصِدْق وأَهَمِّيَّة البَيَانَات التي يَتِم الحُصُول عَلَيها من تاريخ الحالة فيما يتعلق بوضع الحالة ووضع المُشّكِلَة؟

تتعلق الموْضُوعِيَّة بمقدار كبير بمدى بِنْيَويّة الأداة، أي بمقدار دقة بِناء الأداة المُسْتَخْدَمَة وبالاتجاه المَدْرَسِيّ الأساسيّ للمشخص، أي فيما إِذا كَانَ يعمل سُلُوكياً أم بأحد الاتجاهات النَفّسيَّة الديناميكية كالتحليل النَفّسيّ، أو عِلْم نَفْس الأعماق ...الخ، وما يرتبط بذلك من البَيَانَات التي يُعِدّها المشخص مُهِمَّة بِالنِّسْبَةِ   له.

وهناك مجموعة من العوامل التي تؤثر على الموْضُوعِيَّة؛ إذ يُمْكِن لأنماط سُلُوك المقابل interviewer –أي الشَخْص الذي يجري المُقابَلَة-، كهز الرأس، الصمت...الخ، أن تؤثر على الاِسْتِفْسار، أي على كثرة الحديث ومدته...الخ، في المُقَابَلات الشفوية بشكل خاصّ. أو أن يميل المقابل إلى صبغ كُلّ شيء بِالصِبْغَةِ المرضية (الباثولوجيَّة المرضية-الإكلينيكيّة)، أي الميل إلى تَفْسِير كُلّ معلومة يَتِم تقديمها من الزاوية المرضية وتَفْسِيرها على أنها إشارة أو علامة مَرَضِيَّة. وهو ما تطلق عَلَيه القاعدة المرضية أو الأساس المَرَضيّ بِالنِّسْبَةِ  للمراجع Pathological Basis Client. كما يُمْكِن أن يقوم القائم على المُقابَلَة بعَمَلِيَّة تَصْفِيَة (مراقبة censor) لبَيَانَات تاريخ الحياة عِنْدّ المُراجِعِ، وهو اتجاه قًدْ يكون شعورياً أو لا شعورياً للمُشَخِّص حَولَ الكيفيَّة التي على المَفْحُوص الإجابة فيها ويظهر هذا الميل كذلك حتَّى عِنْدَما تكون الإجراءات مبينة بشدة. كما يتأثر الحُصُول على البَيَانَات بالتَصَوُّرات المرضية لدى الفَاحِص، أي بالتَصَوُّر الذي يمتلكه الفَاحِص حَولَ المَرَض وأسبابه، كالتَصَوُّر البيولوجِيّ أو النَفّسيّ أو الاجتماعي أو التَصَوُّر السُلُوكي أو الدافعي ..الخ، وهو تَصَوُّرٌ مُرْتَبِطٌ بالاتجاهِ المَدْرَسِيّ للفاحصِ على أيةِ حال.

ويُمْكِن تحقيق موْضُوعِيَّة الاِسْتِفْسار من خلال استخدام اِسْتِبْيانات مُخّتَلِفَة لتاريخ الحالة، ذلك أن الأَمْر يتعلق هنا بالسُؤَال عن وقائع مثل استخدام صفحة البَيَانَات النَفّسيَّة Psychological Data Sheet لكار Carr أو اِسْتِبْيان تاريخ الحياة لللازاروس الذي يرجع إلى عام (1973) على سبيل المثال. ومن حسنات استخدام هذا الشكل من الاستبيانات استكمال المَعْلُومَات التي قًدْ لا يتَطَرَّق لها المشخص في الاِسْتِفْسار ويشعر المراجع بأنه أكثر حرِيَّة ويأخذ وقته في الإجَابَةِ عن الأسْئِلَة بالإضافة إلى أنه لا تتَدَخُّل هنا توقعات المشخص كعامل مؤثر في مجرى الاِسْتِفْسار وطريقته.

وتظهر هذه المُشّكِلَة بشكل أوضح فيما يتعلق باِسْتِقْصاء البَيَانَات المُتَعَلِّقة بالأطفال من الوالدين. والسُؤَال المطروح هنا: إلى أي مدى تكون بَيَانَات الوالدين موثوقة؟ تظهر الدراسات حَولَ مدى دقة بَيَانَات الوالدين فيما يتعلق بتاريخ الحياة والنُمُوّ والذَكَاء والإنجاز المَدْرَسِيّ وسِمَات الشَخْصيَّة والانحرافات السُلُوكية بِأنَّ مَعْلُومَات الوالدين تشكل مصدراً مُهِمَّاً للبَيَانَات إلا أنها لا تشكل أبداً المصدر الوحيد. أما البَيَانَات الموثوقة إلى حد ما فهي التي تتعلق بالوقائع حَولَ النُمُوّ حتَّى الآن ووَصْف أنماط السُلُوك الملموسة. وتَنْعَكِس الخبرات الذَّاتية للوالدين في البَيَانَات حَولَ شَخْصيَّة وحالة الطفل، ومن هنا فإن هذه البَيَانَات تؤخذ بحذر. وهناك شك في البَيَانَات حَولَ السُلُوك أو التَصَرُّف الطفلي.

ويُقَدِّم الجدول التالي عرضاً مبسطاً للعناصر التي يُمْكِن الاسترشاد بها في سبر التاريخ المَرَضيّ:

 

تصويرة مبسطة لتاريخ الحياة في الممارسة العَمَلِيَّة (لريمشميدت Remschmidt)

أسلوب القبول

اليوم، الساعة، المرافقة، الطبيب المحول، سبب التحويل، أسلوب الإدخال (في مقتضى الحال الإشارة إلى قانون الإلحاق)، وربما مُلاحَظَة السُلُوك في قسم القبول

تاريخ الحياة

1) التاريخ الأُسَّرَي:

مَعْلُومَات حَولَ الأقارب (الجد والجدة، الوالدين، الإخوة…الخ)، وتتضمن: السن، الأمراض (التشوهات، الأمراض المزمنة، الأمراض النَفّسيَّة، الإقامة في المستشفى)، المهنة الحالية.

شَخْصيَّة وتطور الوالدين والإخوة و تركيبة الإخوة،

الوضع الاجتماعي والاقتصادي للوالدين،

انطباع حديث الوالدين أو المتحدث.

2) التاريخ الشَخْصي:

النُمُوّ المبكر: مجرى الحمل، الولادة، تكرار الولادات، النُمُوّ في سن الرضاعة و في سن الطفولة الأولى، النُمُوّ في سن ما قبل المدرسة، الأعراض الإنذارِيَّة.

المدرسة والمهنة: الدخول إلى المدرسة، مُسْتَوى التعليم والتَحْصيِل، المُخَطَّطَات المِهْنِيّة، التأهيل المِهْنِيّ،...الخ.

الجُنُوسَة: مُسْتَوى النُمُوّ جِنْسِيّ، الاتجاه من الجنوسة، الفعاليات الجِنْسِيَّة.

الأمراض الباكرة: البدء، الإجراءات، المجرى.

الوضع الاجتماعي: علاقات الصداقة، الوضع الاجتماعي في مجموعات الأتراب، التفاعلات و النشاطات خارج الأُسَّرَة، الشذوذات الاجتماعِيَّة، نشاطات وقت الفراغ.

الشَخْصيَّة الأوليَّة، الهوايات والاهتمامات.

المُرفِّهات (المُكيفات) والعقاقير والأدوية: قهوة، نيكوتين، كحول، مدمنات وأدوية (تُذْكَر هنا حسب النوع والجرعة و فواصل ومدة التناول).

ديناميكية الأُسَّرَة: علاقات المَريض بأفراد الأُسَّرَة الآخرين، التفاعل والنشاطات داخل الأُسَّرَة.

الأعراض الراهنة: البدء، السياق المَوْقِفيّ، الشدة، الإجراءات، المجرى.

أسْئِلَة تأكيد

لامعاوضة (قصور) قلبي: عسر تنفس، تربل edema

 الشهية: اشمئزاز من أطعمة مُعَيَّنَة، ضعف القُدْرَة على تَحَمُّل الأطعمة.

إقياء، غثيان، عطش، تبول، تغوط، فِقْدَان الوزن، نوم.

 التناول المنتظم للأدوية: التَحَمُّل، سوء الاستخدام.

 

 

2.2. السبر Exploration

السبر أو الاِسْتِقْصاء[2] هو عَمَلِيَّة تَهْدِف إلى فَحْص ”المحيط الحياتي الذَّاتي أو الشَخْصي“ للمَفْحُوص (الخبرة، الانفعالات، الحالة النَفّسيَّة). وهو مفهوم من اللغة التخصصية الطبية لمسح الظواهر النَفّسيَّة المرضية بواسطة سُؤَال المَريض. وقد تم نقل هذا المفهوم إلى عِلْم النَفْس واستخدم بمعنى الحُصُول على الحوادث النَفّسيَّة الطبيعِيَّة بواسطة الاِسْتِفْسار أو سُؤَال المَريض.

يهتم الاِسْتِقْصاء أو السبر الراهن بشكل عام بنوع الاِضِّطِراب النَفّسيّ والانتباه والذَاكِرَة والتفكير والمِزاج والدافعِيَّة، إنه فَحْص للوظائف النَفّسيَّة لا يهتم بتحديد الوقائع والبَيَانَات، بل بكيفيَّة عمل الوظائف النَفّسيَّة عِنْدّ المُراجِعِ، من تفكير وإدراك ومعالجة مَعْلُومَات وتَرْكِيز وإحساس ومَشَاعِر و تَقْيِيمات...الخ.

ويتطلب السبر مَهَارَة كبيرة وإحساساً مرهفاً ولابد أن يتلاءم مع تفرد الشَخْص وأسرته بحيث ينشأ جو من الثِقَة. ولابد للسبر من أن يكون جَلْسة مُدَارَة بِمَهَارَة من أجل اِسْتِنْتَاج الأسْئِلَة المُتَعَلِّقة بالوظائف النَفّسيَّة المنفردة بشكل غير مُلِّفِت للنَظَر قَدَر الإمكان . وهنا من المهم أن يَتِم اِسْتِنْتَاج الوظائف النَفّسيَّة الطبيعِيَّة والمضطربة على حد سواء. وهذا يعني أنه بين السُلُوك الطبيعي والمرضي يوجد فرق أقرب للكمي مِنْهُ للنوعي.

 

2.2.1  السبر لدى الأطفال

يعد السبر أو الاِسْتِقْصاء لدى الأطفال على دَرَجَة كبيرة من الأَهَمِّيَّة ويتطلب خِبْرَة لدى المشخص ومَعْرِفَة بعِلْم نَفْس النُمُوّ ونَظَريات النُمُوّ العَقْلِيّ. ويُعَدّ السبر من منظور الطفل مُهِمَّاً لأن التقديرات الطفليَّة لبيئة التربية والتفاعل مع القائمين على تربيته تخْتَلِف عن تقديرات المربين أنفسهم. ويعتمد السبر فيما يتعلق بالمنظور الطفلي على سِمَات النُمُوّ والإنجاز والشَخْصيَّة أكثر من غيرها من السِمَات. وعلى المشخص هنا أن يأخذ بعين الاعتبار الخصائص التالية.

نُمُوّ الذَاكِرَة المُتَعَلِّقة بالسِيْرَة الذَّاتية: منذ سن الثالثة تقريباً من الممكن للطفل أن يُقَدِّم تَقْرِيراً عن الأحداث التي شاهدها أو عايشها (Roebers & Elischberger, 2002).

نَظَرِيَّة العقل: هي نَظَرِيَّة عَقْلِيّة من عِلْم نَفْس الحياة اليومية لتَفْسِير السُلُوك الإنساني، تتعلق باستنتاج وتقدير الحالات العَقْلِيَّة مثل الاعتقاد، والرغبات، والنوايا والانفعالات، والمقاصد والعواطف والتخيلات ... الخ عِنْدَ الأشخاص الآخرين وفصلها عن الحالة العَقْلِيَّة عِنْدَ الطفل، ففي عُمْر الثالثة تبدأ نَظَرِيَّة العقل بالنُمُوّ، ويصبح الطفل في عُمْر الخامسة قادراً على الحُكْم على سببية سلاسل التفاعل، وفي سن اليفوع تصل نَظَرِيَّة العقل والمَعْرِفَة الاجتماعِيَّة إلى مُسْتَوى نُمُوّ الراشدين، فيصبح قادراً على تخزين المَعْرِفَة الاجتماعِيَّة في شكل فئة من الأحداث الاجتماعِيَّة النَمَطيَّة؛ مثال: (مُخَطَّطَ "احتفالات أعياد الميلاد)

قابليَّة الأطفال للإيحاء: يكون الأطفال أكثر قابليَّة للإيحاء من غيرهم بسبب مُسْتَوى نُمُوّهم المَعّرِفيّ ونَظَرِيَّة العقل والذَاكِرَة والقُدْرَات اللغوية والتفاعل الاجتماعي (Sturzbecher et al., 2001). وتنتج القابليَّة للإيحاء من خلال الأسْئِلَة الإيحائيَّة المباشرة وتعزيز سُلُوك الإجابة المرغوب بها من الوالدين . والقابليَّة للإيحاء ليسَت سِمَة شَخْصيَّة ثابتة وإنما تتعلق بالعوامل الاجتماعِيَّة والمَعّرِفيَّة وتتأثر بالعُمْر؛ فالأطفال بين ثلاث وأربع سنوات لديهم استعداد كبير، والأطفال تحت سن السابعة من العُمْر أكثر استعداداً للإيحاء من الأطفال الأكبر، ومنذ العاشرة تصبح الاستجابة للأسْئِلَة الإيحائيَّة مشابهة للكبار تقريباً.

ويُقَدِّم الجدول التالي عرضاً لبعض المَظَاهِر التي يَتِم سبرها في هذا الإطار:

مُخَطَّطَ مبسط لسبر الوضع القائم (الفَحْص النَفّسيّ)

  • المَظّهَر الخارجي: الطول، الوزن، النضج، العلامات المميزة، الثياب، النظافة.
  • الاتصال والقُدْرَة على العلاقة: حضور مرافق، التَعَلُّق بمرافق (في حال الأطفال)، البدء بالعلاقة مع الفَاحِص، الألفة، الثِقَة بالنفس، التعاون.
  • الانفعالات: المِزاج، الوجدان، التعبير الحركي النَفّسيّ.
  • محتويات التفكير: المخاوف، الهوامات أو الخيالات، الأحلام، اِضِّطِرابات التفكير، مفهوم الذَّات، الهوية.
  • الوظائف المَعّرِفيَّة: اِضِّطِرابات الانتباه، التوجه، الإدراك، الفهم، الذَاكِرَة، الذَكَاء العام.
  • اللغة: السعة، الرتابة، التعبير، الذخيرة اللغوية التعقيد، فهم الكلام، التعابير الإيمائيَّة
  • الحركة: الدافع والنشاط، شذوذات جَسَديَّة نوعِيَّة: كالعرات، الحركات التكرارِيَّة، الأتمتات أو الحركات اللاإراديَّة Auto mutilation
  • التفاعلات الاجتماعِيَّة: الوضع داخل الأُسَّرَة، المدرسة، المهنة،...الخ

2.2.2. مجرى التَشّخِيص النَفّسيّ لدى الأطفال اليافعين

يقسم الفَحْص النَفّسيّ الإكلينيكيّ إلى ثلاثة أقسام:

  • تاريخ الحالة
  • الفَحْص النَفّسيّ الإكلينيكيّ للمراجع
  • مناقشة النتائج

وحسب إشكاليَّة وحجم الفَحْص اللازم يَتِم تخصيص ما بين ثلاث إلى خمس جلسات، مدة كُلّ منها ساعة واحدة. ويَتِم تَنْظِيم مواعيد الجلسات بشكل جلسات فرديَّة منفصلة أو جلسات مجمعة (متصلة) حسب سن الطفل أو اليافع واستعداده للتعاون.

 

2.2.2.1 تاريخ الحالة

فِي هَذِهِ المرحلة يَتِم سبر أهم المَعْلُومَات مع الوالدين و الطفل (حسب العُمْر). وعادة ما يحصل هذا في جَلْسة مفتوحة في جِزء منها والجِزء الآخر من خلال مُقابَلَة تتضمن أسْئِلَة محددة. وتُسَاعِد هنا البَيَانَات التي يَتِم الحُصُول عَلَيها حَولَ السِيْرَة الذَّاتية الفرديَّة للطفل وحول أسرته وأصِدْقائه ونشاطاته وقت الفراغ وبيئته المَدْرَسِيّة، في  تَقْوِيم الإشكاليَّة/الدلائل من أجل التوسع بالفَحْص إلى مجال أوسع قَدَر الإمكان، والتمكن من اختيار أدَوَات الفَحْص.

 

2.2.2.2 الفَحْص/الاخْتِبَار النَفّسيّ الإكلينيكيّ

ويتطلب هذا الجِزء ما بين ثلاث إلى أربعة وحدات في العادة حسب المسألة أو الإشكاليَّة وتَكْلِيف المراجع (الوالدين، الطفل/اليافع) ويَتِم هنا استخدام الأَدَوَات المُلاءِمة، حسب الإشكاليَّة، فإما أن يَتِم تطبيق اخْتِبَار ذَكَاء واخْتِبَار إنجاز أو اخْتِبَار شَخْصيَّة أو كلها. وإلى جانب تطبيق الاخْتِبَارات فإن مُلاحَظَة سُلُوك الطفل أو اليافع أمر مُفِيد ويعطي مَعْلُومَات واسعة. وتَدَخُّل مُلاحَظَة السُلُوك في التَقْوِيم الكلي.

 

 

2.2.2.3 مناقشة النتائج

ويمثل هذا الجِزء القسم النهائي من الفَحْص. واِرْتِبَاطاً برغبة الوالدين و سن المَفْحُوص يَتِم مناقشة النتائج مع الأوصياء أو مع الطفل فقط. وتتم مناقشة نَتَائِج الاخْتِبَارات والسُلُوك بدقة. ويمثل التعاون والتَحَمُّل والدافعِيَّة ووَصْف المَفْحُوص لنفسه في أثناء مُعَالَجَة المَهَمَّات المطروحة أهم النتائج وتتم مقارنتها مع مُلاحَظَات الوالدين. وفي الختام يَتِم تقديم نصائح أخرى.

 

2.3 المُقابَلَة

تُعَرَّف المُقابَلَة على أنها تَواصَل لفظي هادف بين طرفين تحتل فيه جمع المَعْلُومَات حوال السُلُوك والخبرة عِنْدَ الشَخْص المسؤول مركز الصدارة. ويجري الحوار بشكل رسمي وفق  مِحَكَّّات محددة للحوار.

و يُمْكِن النَظَر إلى المُقابَلَة من أربع زوايا:

  • الحُصُول على المَعْلُومَاتِ من خلال تبادل الحديث بين شخصين على الأقل.
  • يَسيِر اتجاه المَعْلُومَات بشكل أساسيّ في اتجاه: من المسؤول إلى السائل.
  • تجري بين المسؤول والسائل تفاعلات على مُسْتَوَيات مُخّتَلِفَة: على مُسْتَوى نَفّسيّ عام، على مُسْتَوى نَفّسيّ اجتماعي، نَفّسيّ تعِلْمِيّ، نَفّسيّ أعماقي.
  • يَتِم تَصْمِيم ”الحوار“ من السائل بحيث يُمْكِن من خلاله الحُصُول على بَيَانَات أو مَعْلُومَات تمكن المشخص من إجراء  تَقْوِيم منطقي.

والمُقابَلَة التَشّخِيصيَّة لا تَهْدِف إلى تَوْضِيح وجهات النَظَر ولا إلى محاولة إقناع الطرف الآخر بأمر ما ولا إلى تبادل مَوْضُوعَات تتجاوز الهدف التَشّخِيصي، فالمُقابَلَة من هذه الزاوية ليسَت جَلْسة ود وسمر

وإلى جانب الأسْئِلَة الهادفة جداً فيما يتعلق بالأعراض يُمْكِن للمعالج أن يسأل في المحادثة الأولى عن مَعْلُومَات عامة تدور حَولَ النقاط التالية:

  • ما الذي أتى بك إلي؟
  • صف لي طفولتك ويفوعك؟.
  • حدثني عن شبابك وعملك وتأهيلك وقصة زواجك؟.
  • من هم الأشخاص الذين كانوا مهمين في حياتك؟ صف لي علاقتهم بك؟
  • حدثني عن حياتك الجِنْسِيَّة ومَشَاعِرك فيما يتعلق بالجنس؟.
  • صف لي الخبرات الانفعاليَّة التي تَعَرَّضَت لها في الفترة الماضية وَصْف لي ردة فعلك على ذلك؟.
  • هل عانيت في السابق من مُشْكِلات انفعاليَّة أيضاً؟
  • هل يوجد في أسرتك سوابق في الأمراض النَفّسيَّة؟
  • ما هي المواقف التي ترهقك وتحبطك؟ كيف تتورط في مثل هذه المواقف؟
  • إلى أي مدى أضرت أعراضك بحياتك أو أعاقتها؟
  • صف لي مجرى نُمُوّذجياً ليوم من أيامك (كيف يَسيِر يومك في العادة)؟
  • ما هي نقاط الضعف والقوة لديك؟

 

فما الفرق بين دراسة الحالة والسبر والمُقابَلَة؟ فيما يلي عرض تلخيصي لأهم الفروق مع الإشارة إلى أن هذا التفريق هو مجرد تفريق توضيحي تتداخل حدوده بشدة.

 

الفرق بين دراسة الحالة والسبر والمقابلة

في الجَلْسة التَشّخِيصيَّة تتداخل هذه المُسْتَوَيات مع بعضها بحيث يبدو من الصعب عملياً الفصل بينها أثناء الجَلْسة. غير أنه توجد فروق من الناحية المفاهيمية تفيد المُتخصص في التَعَرُّف إلى المُسْتَوى الذي يتحرك ضمنه، وإعطاء كُلّ جانب من هذه الجوانب حقه في الجَلْسة التَشّخِيصيَّة:

 تشترك السِيْرَة المرضية والسِيْرَة التتبعِيَّة والاِسْتِقْصاء والمُقابَلَة مع بعضها بمجموعة من الخصائص منها أنها تتم في شكل حديث متبادل بين طرفين يحدث بينهما التفاعل على مُسْتَوَيات عدة؛ نَفّسيَّة واجتماعِيَّة وتعِلْمِيّة وأعماقيَّة، كما تشترك مع بعضها بالضَبْط المنطقي عِنْدَ التَقْوِيم؛ فهي على المُسْتَوى العِلْم النَفْسيّ عِبَارة عَنْ تبادل للمَعْلُومَات، وعلى المُسْتَوى الاجتماعي تَدَخُّل فيها انفعالات التقارب والتباعد أو الود والنفورSympathy/Antipathy، وعلى المُسْتَوى التَعِلْمِيّ تجري فيها عمليات تعزيز سلبي وإيجابي وعلى المُسْتَوى الأعماقي عمليات النقل والنقل المعاكس.

تهتم دراسة الحالة بالحُصُول على بَيَانَات ووقائع ملحوظة كالسن والجنس والنُمُوّ والأمراض والأحداث الشَخْصيَّة وغيرها يَتِم الحُصُول عَلَيها سواء من الشَخْص نفسه أم من أشخاص آخرين أم وثائق رسمية وغير رسمية على حد سواء. أما السبر فيشتمل على الجانب الذَّاتي لِلشَخْص ويَتِم فيه الحُصُول على المَعْلُومَاتِ حَولَ الجوانب الذَّاتية لِلشَخْص من الشَخْص نفسه وليسَ من أطراف أخرى وهو يهتم باِسْتِقْصاء التَصَرُّف أو الأَفْعَال وبالدوافع الكامنة خلفها. إنه فَحْص أَهَمِّيَّة المواقف بِالنِّسْبَةِ  لِلشَخْص وتأثيراتها عَلَيه وإمكانات الشَخْص في التأثير في المواقف. ويتشابه كلاهما في الاهتمام بشَخْصيَّة المَفْحُوص ويتَطَرَّقان لمَوْضُوعَات شَخْصيَّة وحميمية أيضاً. وهما يختلفان عن المُقابَلَة فِي هَذِهِ الناحية حيث تهتم المُقابَلَة بالمَعْلُومَات أكثر من اهتمامها بالشَخْص نفسه. أي أن المُقابَلَة تُرَكِّز هنا على المَوْضُوعَات الحياديَّة ولا تتناول مَوْضُوعَات حميمية.

وتتأثر هذه الأشكال كلها بالاتجاه التَشّخِيصي-العِلاجِيّ للمشخص بدَرَجَات مُخّتَلِفَة. إذ يغلب على المشخص التحليلي النَفّسيّ على سبيل المثال أسلوب الإصغاء الصامت؛ وتحديد العوامل اللاشعورِيَّة، في حين يغلب على المشخص المُتَمَرْكِّز حَولَ المُتَعَالِج أسلوب عكس المَشَاعِر وعَدَم وضع قيود، بينما يغلب على المعالج السُلُوكي الاِسْتِعْرَافي أسلوب الاِسْتِفْسار الدقيق عن مَوْقِف الاِضِّطِراب والتَطَرُّق الملموس للعلاج.

 

 

2.3.1 تَصّنيِف المُقَابَلات

هناك تَصّنيِفات متعددة للمُقَابَلات نذكر من بينها ثلاثة تَصّنيِفات:

2.3.1.1 أولاً: تَصّنيِف المُقابَلَة حسب نوعِيَّة التفاعل بين السائل والمسؤول

يُمْكِن تَصّنيِف المُقابَلَة حسب نوعِيَّة التفاعل الحاصل بين المشخص والمراجع إلى:

  1. المُقابَلَة اللينة (الخفيفة): ويسود فيها جو من الدفء والانفتاح بحيث يستطيع المراجع الحديث بحرِيَّة وصراحة عن خبراته دون خَوْف أو قيود داخليه تعيقه عن الانطلاق والمكاشفة.
  2. المُقابَلَة الحياديَّة: يتَصَرَّف السائل فيها بتحفظ مع ضمان جو من الحرِيَّة أو الاستقلاليَّة للمَفْحُوص.
  3. المُقابَلَة الصلبة أو القاسية: وتتم في هذا النوع من المُقَابَلات استثارة انفتاح ومصارحة المراجع من خلال التشكيك (الزعزعة) والاستفزاز.

 

2.3.1.2 ثانياً: تَصّنيِف المُقابَلَة حسب دَرَجَة بِنْيَويّتها أو تعييرها

وهو الشكل الغالب في تَصّنيِف المُقَابَلات و يوجد في هذا الجانب عدة أشكال أو أنواع للمُقابَلَة حسب الغرض منها: الجَلْسة المَبْنيّة مُقَابِل الجَلْسة نِصْف المَبْنيّة وغير المَبْنيّة، والمُقابَلَة المُعَيَّرة مُقَابِل المُقابَلَة نِصْف المُعَيَّرة وغير المُعَيَّرة.

 

2.3.1.2.1 المُقابَلَة المَبْنيّة مُقَابِل المُقابَلَة غير المَبْنيّة

يقصد بالمُقابَلَة المَبْنيّة Structured أنها معدة وفق  مِحَكَّّات خارجيَّة تَهْدِف أسئلتها إلى التأكد من مدى تحقيق المراجع لهذه المَحَكَّات (كالمَحَكَّات التَشّخِيصيَّة لاِضِّطِراب الوسواس القَهْريَّ على سبيل المثال في الدي أس أم أو الآي سي دي). وفي المُقابَلَة المَبْنيّة يكون المضمون و تسلسل الأسْئِلَة وفِئَات الإجابة وفِئَات التَقْوِيم محدداً بشكل دقيق. ولا يوجد تنوع فَرْدِيّ لا لدى السائل ولا لدى المجيب. وهذا الشكل يشبه كثيراً اِسْتِبْيانات الشَخْصيَّة. وتَتَصِف المُقابَلَة المَبْنيّة بمجموعة من الصفات يُمْكِن تلخيصها بأنها اقتصاديَّة في الاستخدام والتَقْوِيم حيث يُمْكِن مُقَارَنَة المَعْلُومَات من مُقَابَلات متعددة مع بعضها بسهولة. ومن السهل الحُصُول فيها على معايير الصلاحية (الموْضُوعِيَّة والثبات والصِدْق) كما يُمْكِن ضَبْط وتخفيض أخطاء نصوص الأسْئِلَة أو الأخطاء الراجعة إلى التَقْيِيمات المُخّتَلِفَة للإجابات. أما العيوب فيُمْكِن تلخيصها في أنه من الصعب في المُقَابَلات المَبْنيّة تصوير المحيط الحياتي الذَّاتي للمَفْحُوص بشكل كاف.

وفي المُقابَلَة غير المَبْنيّة تكون محتويات وتسلسل الأسْئِلَة مفتوحاً، وكذلك إمكانات الإجابة و نوع التَقْوِيم. وميزات المُقَابَلات غير المَبْنيّة تكمن في المَلاءَمَة الفرديَّة للحوار مع الوضع الفردي للمسؤول. حيث يُمْكِن تَكْيِيِف الأسْئِلَة حسب حالة المَفْحُوص ومستواه المَعّرِفيّ، والتَطَرُّق إلى جوانب قًدْ تبرز في أثناء المُقابَلَة. أما عيوبها فتكمن في غياب القابليَّة للمقارنة مع حوارات أخرى وخطر فِقْدَان مَعْلُومَات مُهِمَّة، لأن المرء نسي التَطَرُّق إليها في مجرى الجَلْسة.

والمُقابَلَة المَبْنيّة عموماً ليسَ بالضرورة أن تكون مُعَيَّرة، أي أن تتوفر فيها معايير الصلاحية (الصِدْق والثبات والموْضُوعِيَّة) وكلما كَانَتْ المُقابَلَة المَبْنيّة أكثر تعييراً كَانَتْ أفضل. وتحقق المُقَابَلات المَبْنيّة الثبات حيث تتحدد درجته من خلال ثبات الأحكام المُخّتَلِفَة التي يتوصل إليها أكثر من مشخص وتطلق عَلَيه تَسْمِيَة ثبات المقابلين inter Rater Reliability (الثبات بين المقابلين)، وفيه يَتِم اخْتِبَار مدى التطابق بين المقابلين لِلشَخْص نفسه في الحُصُول على المَعْلُومَاتِ و تَقْوِيمها. أما الصِدْق فهو غير محقق في الغالب، فهي تحقق المَحَكَّات التَشّخِيصيَّة المتفق عَلَيها وهذه المَحَكَّات ليسَ بالضرورة لها أن تكون صادقة (أي أن تكون ممثلة للمجال السُلُوكي المراد قِيَاسه بالفعل).

مُقَارَنَة بين خصائص المُقَابَلات المَبْنيّة المُخّتَلِفَة

السِمَة

غير مَبْنيّة

نِصْف مبينة

مَبْنيّة

دَرَجَة التعيير

ضئيلة

متوسطة

عالية

مساحة حرِيَّة المشخص

كبيرة جداً

متوسطة

ضئيلة

مساحة انفتاح المراجع

كبيرة جداً

كبيرة

ضئيلة

دَلِيل المُقابَلَة

غير موجود

دَلِيل يتضمن الأسْئِلَة الأساسيّة والثانوية

قَائِمَة كاملة من الأسْئِلَة

نوع الأسْئِلَة

مفتوحة

مفتوحة

مغلقة

ال تَقْيِيم

ليسَت جِزءاً من المُقابَلَة

قًدْ تكون جِزءاً من المُقابَلَة

داخلة ضمن المُقابَلَة

المرونة/الجمود

مَرِنَة جداً

معتدلة المرونة

جامدة جداً

النتيجة

عبارات نوعِيَّة (وَصْفيَّة)

عبارات وَصْفيَّة أو بَيَانَات كمية

تَصّنيِف

 

 

2.3.1.2.2 المُقابَلَة المُعَيَّرة مُقَابِل المُقابَلَة غير المُعَيَّرة

المُقابَلَة المُعَيَّرة هي المُقابَلَة التي تتوفر بِالنِّسْبَةِ  لها المعايير السَيكُومترِيَّة للقِيَاس، أي الصِدْق والثبات والموْضُوعِيَّة. ويوجد عدد كبير من المُقَابَلات المُعَيَّرة حسب الأهداف: مُقَابَلات الفرز والمُقَابَلات المِهْنِيّة والتَصّنيِفيَّة (الإكلينيكيّة). وتخْتَلِف المُقَابَلات المُعَيَّرة في سعة المجال السُلُوكي الذي تستقصي عنه؛ فمنها ما يغطي مجالاً سُلُوكياً محدداً ومنها ما يغطي عدة مجالات سُلُوكية. وفي الميدان الإكلينيكيّ يوجد عدد من المُقَابَلات المُعَيَّرة التي تَهْدِف إِمّا إلى التَصّنيِف ضمن فئة محددة أو إلى التَشّخِيص الموسع فتغطي عِنْدَئذ عدد أكبر من المَظَاهِر التَشّخِيصيَّة من تلك التي تغطيها المُقَابَلات المَبْنيّة ومنها ما يشتمل كذلك الموارد والصِرَاعات والعلاقة عِنْدَ المَفْحُوص. ويُمْكِن التمييز هنا كذلك بين مُقَابَلات مُعَيَّرة بالكامل ومُقَابَلات غير مُعَيَّرة.

 

مُقَارَنَة بين خصائص المُقَابَلات المُعَيَّرة وغير المعيرة

 

الاستجابة/الإجابة

المُعَيَّرة

غير المُعَيَّرة

السُؤَال المثير (المحفز)

المُعَيَّرة

جَلْسة (حوار) مُعَيَّر

السُؤَال: مُعَيَّر

الإجابة: مُعَيَّرة

جَلْسة حوار نِصْف مُعَيَّر

السُؤَال مُعَيَّر

الإجابة غير مُعَيَّرة

غير المُعَيَّرة

جَلْسة (حوار) نِصْف مُعَيَّرة

السُؤَال: غير مُعَيَّر

الإجابة: مُعَيَّرة

جَلْسة (حوار) غير مُعَيَّرة

السُؤَال غير مُعَيَّر

الإجابة غير مُعَيَّرة

 

 

 

2.3.1.3 ثالثاً: تَصّنيِف المُقابَلَة حسب الأهداف

ونشير هنا إلى ثلاثة أنواع منها:

2.3.1.3.1 المُقابَلَة المتمِحْوَرة حَولَ القَرَار

هي جَلْسة يَتِم إجراؤها و تَقْيِيمها وفق معايير عِلْم النَفْس تَهْدِف لتهيئة اتخاذ القَرَارات المقبولة قَدَر الإمكان، كاتخاذ القَرَار بالعلاج النَفّسيّ أو الإِرْشاد أو إعادة التأهيل أو التَدْرِيب أو التنمية المَعّرِفيَّة في المجال التَرْبَويّ على سبيل المثال. ولا يتعلق الأَمْر بالاِسْتِفْسار عن وقائع وإنما يَتِم الحُصُول على تَصَوُّرات وتوقعات المَفْحُوص. كما لا يتعلق الأَمْر بتَفْسِير أو تَوْضِيح المواقف أو وجهات النَظَر أو الإقناع المتبادل بشيء ما، كما هو الأَمْر في النقاش أو الاجتماعات، فإذا لاحظ المُتخصص النَفّسيّ بأنه قًدْ انزلق في مثل هذا النوع من الجدل فإنه عَلَيه أن يَعرِف بأنه لم يعد يعمل بشكل متمِحْوَر حَولَ القَرَار.

وربما تمتلك الحوارات تأثيرات عِلاجيَّة أو تقود إلى استبصار أفضل بالمُشّكِلَة، بمعنى أنها من الممكن أن تخدم أغراضاً عِلاجيَّة أو إِرْشاديَّة بشكل غير مُبَاشَر، إلا أن الهدف التَشّخِيصي ينبغي ألا يتحول إلى أمر جانبي.

 

2.3.1.3.2 مُقابَلَة المَلاءَمَة أو المُوَاءَمَة:

راجع الفصل الثاني عَشَرْ: تَشّخِيص المُوَاءَمَة المِهْنِيّة.

2.3.1.3.3 المُقابَلَة الأُسَّرِيَّة

تعد المُقابَلَة التَشّخِيصيَّة في المسائل الأُسَّرِيَّة أهم مصدر من مصادر المَعْلُومَات في المسائل الأُسَّرِيَّة القانونيَّة. ومن هنا فإن اختيار نوع المُقابَلَة في السياق الأُسَّرَي مهم وذلك لأن المُقابَلَة تَهْدِف إلى الحُصُول على المَعْلُومَاتِ من ناحية، ومن ناحية أخرى لها وَظِيفَة اجتماعِيَّة حيث يحصل المقوم (المشخص) من خلالها على انطباع شَخّصيّ عن الأُسَّرَة، ومن ناحية ثالثة فإنها تَهْدِف إلى بِناء علاقة ثِقَة صريحة قَدَر الإمكان، فالمُقابَلَة التَشّخِيصيَّة غالباً ما تكون هي الاحتكاك الأول للمَعْنِيّين مع المُتخصص النَفّسيّ، وهو يُسَاعِد في إطار المُقابَلَة على تَوْضِيح وجهات النَظَر ويُقَدِّم معرفته للمَعْنِيّين حَولَ عواقب الانفصال والطلاق مثلاً. ومن هذه الزاوية فإنه لا يُنْظَر للمُقابَلَة الأُسَّرِيَّة على أنها إجراء للحُصُول على المَعْلُومَاتِ فحسب بل هي جِزء من التَدَخُّل. ومن أجل تحقيق هذه المطالب فإنه ينصح في المُقَابَلات الأُسَّرِيَّة استخدام المُقَابَلات نِصْف المُعَيَّرة أو غير المُعَيَّرة.

 

2.3.2 ما هو نوع المُقابَلَة التي علي كمُتخصص نَفّسيّ استخدامها

يتوقف نوع المُقابَلَة التي يَتِم استخدامها في المجال الإكلينيكيّ أو غيره على عدة عوامل منها الهدف من المُقابَلَة: هل هو تَشّخِيصي أم بحثي؟ ودَرَجَة تعليم المُرَاجِع وخصائصه الشَخْصيَّة والوقت المتوفر للمُقابَلَة. كما أن لكل نوع من المُقَابَلات مزايا وعيوب تتعلق بالثبات و حجم المَعْلُومَات التي يَتِم سبرها ومساحة التَفْسِير المتاحة للفاحص، فالمُقَابَلات التي تتمتع بثبات الفَاحِصين أفضل من المُقَابَلات التي لا تتمتع بمثل هذا الثبات، والمُقَابَلات المَبْنيّة والمُعَيَّرة تقلل من مساحة المَعْلُومَات التي يُمْكِن الحُصُول عَلَيها، فلا تسمح بكثير من التنوع في المَعْلُومَات. أما المُقَابَلات المُعَيَّرة فتقلل من مساحة تَفْسِير البَيَانَات.

 و من الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى ضرورة الانتباه إلى الاعتبارات السَيكُومترِيَّة المتمثلة في موْضُوعِيَّة وثبات وصِدْق المُقَابَلات؛ فبما أن المُقابَلَة تتم على شكل لقاء بين طرفين وأن هذا اللقاء يتصف بالتفاعل على مُسْتَوَيات متعددة كما أشرنا، فلا يُمْكِن استبعاد التأثير الذي يمارسه كُلّ طرف على الآخر، ومن ثم فإن الموْضُوعِيَّة قًدْ لا تتحقق بشكل كامل في الجَلْسة التَشّخِيصيَّة القَائِمَة على المُقابَلَة.

أما فيما يتعلق بالثبات فإن الأَمْر يتعلق بثلاثة جوانب: الفَاحِص والمَفْحُوص والأداة. ويُمْكِن هنا رفع الثبات Reliability increment بعدة طُرُق:

من الناحية الشكليَّة يسري:

  • المُعَيَّر أكثر موثوقيَّة من غير المُعَيَّر.
  • أكثر من سُؤَال حَولَ نفس الموْضُوع أكثر موثوقيَّة من المَعْلُومَات التي يَتِم الحُصُول عَلَيها من خلال سُؤَال وحيد.
  • الاِسْتِقْصاء (الاِسْتِفْسار) المضاعف من نفس الفَاحِص يعطي نتيجة أكثر ثِقَة من الاِسْتِفْسار نفسه من باحثين مختلفين.
  • المَعْلُومَات العامة أكثر ثِقَة من البَيَانَات المنفردة.

من الناحية المضمونيَّة:

  • يَتِم التَقْرِير عن الوقائع بشكل أفضل من الآراء. أي أنه يَتِم ذكر الأحداث وتاريخها على سبيل المثال بشكل أفضل من التعبير عن الرأي الشَخْصي.
  • يَتِم الإخبار عن الحاضر بشكل أكثر موثوقيَّة من الماضي
  • الأحداث التي تمس المسؤول شَخّصيّاً تكون أكثر موثوقيَّة من المَوْضُوعَات الحياديَّة، التي لا علاقة له بها.
  • البَيَانَات النوعِيَّة أي الوَصْفيَّة أكثر موثوقيَّة من التكرارات الرقمية في المُقابَلَة. (مثال: أشعر بدَرَجَة كبيرة من الضيِّق أكثر موثوقيَّة من أشعر بالضيِّق بمقدار 40%).
  • ويتأثر الصِدْق بمُتَغَيِّرين من الصِدْق:
  • الصِدْق التَواصَلي :Communicative Validity أي تطابق المحتوى مع الموْضُوع، أو تطابق محتوى الأسْئِلَة المطروحة مع الموْضُوع الذي يَتِم الاِسْتِفْسار عنه.
  • صِدْق التصرف Action Validity أي العلاقة بين البَيَانَات اللفظية التي يَتِم ذكرها والسُلُوك.

 

3. مُلاحَظَة السُلُوك

يُمْكِن للمُلاحَظَة أن تثبت الظروف المَوْقِفيَّة عِنْدَ الاخْتِبَار، فيُمْكِنها أن تدرس على سبيل المثال نوع التعاون، الأعراض الجَسَديَّة للتعب أو الإرهاق أو التفاعل والاستجابات وسرعتها...الخ. كما يُمْكِن للمُلاحَظَة أن تثبت سِمَات مركبة مُهِمَّة للمَفْحُوص. كاستراتيجيات حل المُشّكِلَة أو أشكال التعامل الاجتماعي أو الدهاء أو المكر على سبيل المثال.

 

3.1 أشكال المُلاحَظَة

وللمُلاحَظَة أشكال، يُمْكِن تَصّنيِفها ضمن المُلاحَظَة بالصدفة أو المُلاحَظَة المنهجيَّة للسُلُوك. وفي سياق التَشّخِيص النَفّسيّ تلعب المُلاحَظَة بالصدفة دائماً دوراً مرافقاً، وليسَ أساسيّاً، وهيَ تفيد بشكل خاصّ في الحُصُول على انطباع عام عن الشَخْص ومن أجل بِناء الفرضيات التي يُمْكِن اخْتِبَارها في مجرى الدراسة أو الفَحْص.

أما في المُلاحَظَة المنهجيَّة للسُلُوك فيخطط المُشَخِّص موقفاً مُعَيَّراً، من أجل إيقاظ (استثارة) سُلُوك مُحَدَّد. وغالباً ما يَتِم استخدام شكل مختلط من المُلاحَظَة المنهجيَّة وغير المنهجيَّة. ومثال على هذا دراسة السُلُوك العدواني لطفل في السادسة من العُمْر؛ ففي هذا المَوْقِف يُمْكِن للمُشَخِّص استخدام المُلاحَظَة المنهجيَّة المُخَطَّطَة التي تَهْدِف إلى إيقاظ العدوانيَّة (أخذ لعبة...الخ على سبيل المثال). كما يُمْكِنه أن يُلاحِظ الطفل عِنْدَ تنفيذه لبطارِيَّة اخْتِبَار من أجل اِسْتِنْتَاج فيما إِذا كَانَتْ تظهر لديه ميول عدوانيَّة.

3.2 ميزات وعيوب مُلاحَظَة السُلُوك في التَشّخِيص

من أهم ميزات المُلاحَظَة أنها تقيس السُلُوك الواقعي وليسَ مجرد السُلُوك اللفظي. كما أنها تقدم فرصة ل تَقْيِيم السُلُوك العفوي غير المصنف مُسَبَّقاً واستخدامه في التَشّخِيص، وتتيح مُرَاعَاة التنوع في المَظَاهِر السُلُوكية، كما أن المبدأ القائم على دراسة السير الذَّاتية (البيوغرافي) لا يُمْكِنه الاستغناء عنها. ويعد التدرب على مهارات المُلاحَظَة على دَرَجَة عالية من الأَهَمِّيَّة بِالنِّسْبَةِ  للمُشَخِّص لوجود مجموعة من المخاطر المُتَعَلِّقة بها وهيَ في الوقت نفسه من الانتقادات الموجهة إليها:

  • ذاتية الملاحظات
  • أخطاء المُلاحَظَة
  • أخطاء في تَوْثِيق أو تسجيل الملاحظات
  • التكاليف تقنيَّة مرتفعة في التسجيل بالفيديو
  • التأثير المباشر للملاحظ على المَفْحُوص
  • الاستهلاك التقني الكبير في ”الملاحظ المتخفي“ (مرآة غير عَكوسة-باتجاه واحد).
  • يخضع اختيار وحدات المُلاحَظَة إلى نوع من العشوائيَّة فكل فاحص يُمْكِنه أن يُعَدّ أي مَظّهَر من مَظَاهِر السُلُوك يستحق المُلاحَظَة.
  • من الصعب تبرير كُلّ التحديد أو الفصل النَظَري لوحدات السُلُوك
  • تزداد القابليَّة للمقارنة صعوبة عِنْدَما لا تكون مُلاحَظَات السُلُوك مصنفة مُسَبَّقاً (مُعَيَّرة).

وفي المجال الإكلينيكي فإن فائدة الملاحظة في التشخيص التصنيفي ضعيفة، إذ يكفي من أجل ذلك إجراء ملاحظة عامة، وفائدتها أكبر في تشخيص التفاعل في المجال الأسري والزواجي. ومن أجل ضبط الملاحة تتوفر مجموعة من الأدوات كمنظومة التفاعل الزواجي و تحليل بنية العلاقات الاجتماعية، غير أن هذه الأدوات تحتاج لتدريب واسع وتقييمها مكلف.

3.3 أخطاء الحُكْم في المُلاحَظَة

على الرَغْمَ مِنْ أن الأخطاء التالية تظهر في المُلاحَظَة إلا أنها يُمْكِن أن تلاحظ كذلك في كُلّ أنواع المواقف التَشّخِيصيَّة والعِلاجيَّة والاخْتِبَارِيَّة الأخرى. لهذا فهي لا تقتصر على مَوْقِف المُلاحَظَة وَحْدَهُ إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار بِأنَّ كُلّ مَوْقِف تَشّخِيصي أو عِلاجِيّ هو مَوْقِف مُلاحَظَة بحد ذاته. ويُمْكِن إجمال الأخطاء على النحو التالي:

  1. خداعات الحُكْم: وهو الخداع الحسي الناجم عن العين أو الذَاكِرَة.
  2. تشويه الحُكْم: نتحدث عن الحُكْم المشوه عِنْدَما يَسْتَخْدِم المُلاحِظ معياراً متهاوناً مع مَفْحُوص ما ومع آخر يَسْتَخْدِم معياراً متشدداً، مع العلم أن المُلاحِظْ يدرك هذا شعورياً إلى حد ما.
  3. فشل الحُكْم: على الرَغْمَ مِنْ وجود تمايز بين دَرَجَات الحُكْم، أي توجد فروق بين الأفراد بِناء على المُلاحَظَة، إلا أنه ولاعتبارات ”استراتيجيَّة“ لا يقوم الملاحظ بإعطاء الدَرَجَات حسب الأداء الملحوظ وإنما تَدَخُّل في الأَمْر اعتبارات أخرى.
  4. خداعات الإدراك الاجتماعي، وهنا نميز بين:
    • الانطباع الأول: للانطباع الأول تأثير على الملاحظ، ففي العادة يرتبط الانطباع الأول بالإدراك الانتقائي، أي أننا لا ندرك إلا جِزءاً مما يدور حولنا مما يقود إلى حُصُول أخطاء غير مقصودة في الحُكْم. ومصدرها هو تلك الإشارات والمثيرات التي ندركها بأنها الأكثر إثارة للانطباع (تأثيراً) والأكثر كثافة، فيَتِم منح الأشخاص الذين يحملون ”سِمَات شبيهة“ بالملاحظ مكافأة تطلق عَلَيها تَسْمِيَة مكافأة التعاطف، فالأشخاص المتشابهون في السِمَات يتعاطفون لا شعورياً مع بعضهم أكثر من الأشخاص المتناقضين في السِمَات.
    • الإطار المرجعي (المعيار الخاص): يشترط الحُكْم تَوَفُّر مقدار كبير من الموْضُوعِيَّة في التَقْوِيم. وهذا يعني عَدَم تَدَخُّل أحكامنا وقيمنا الخاصة في القَرَار. غير أنه كثيراً ما يقوم الناس بالحُكْم على الآخرين بِناء على معاييرنا الخاصة أو إطارنا المرجعي الخاص بنا ”سمين هو ذلك الشَخْص الأسمن مني“ ويُمْكِن تعميم هذا على طائفة أخرى من التَصَرُّفات كنَظَرتنا للعدوانيَّة وفرط النشاط وغيرها. كما تلعب الخبرة الذَّاتية مع الموْضُوع في مجرى الحياة دور نقطة ارتكاز مكتسبة دوراً. مثال ذلك إجراء  تَقْيِيم لذَكَاء طفل من قبل مشخصين اثنين؛ الأول يعمل في مركز للإعَاقَة العَقْلِيَّة والثاني يعمل في مركز المتميزين. الأول يقيم الطفل على أنه ذكي والثاني أنه دون المتوسط في الذَكَاء. ويعمل استخدام قِيَم معيارِيَّة على تجنب هذه المُشّكِلَة.
  5. الميل للوسطيَّة (”أخطاء النزعة المَرْكَزيَّة“): في التَقْوِيمات الخطيَّة أي التي ينبغي للملاحظ فيها إعطاء دَرَجَات على متصل ويكون فيها في الوقت نفسه غير متأكد ويخشى من ارتكاب الأخطاء فإنه يميل للوسطيَّة أو إلى ”دَرَجَة معيارِيَّة“ في الحُكْم، تكون فيها التَقْيِيمات متقاربة جداً مُتَمَرْكِّزة حَولَ الوسط مع أنها في الواقع ليسَت كذلك. والفكرة الأساس هنا: خير الأمور أوسطها أو في الوسط أرتكب أقل قَدَر مُمْكِن من الأخطاء في التَقْيِيم فلا أظلم أحداً.

 

  1. أثر الهالة: ويعني حضور Presence ”سِمَة مُعَيَّنَة“ تَسْتَبْعِد الحضور المصاحب Co-presence لسِمَة أخرى. وهنا تكون سِمَة محددة خاصة بالشَخْص أكثر بروزاً من غيرها فتغطي على كُلّ السِمَات الأخرى، كالمَظّهَر الخارجي على سبيل المثال أو الظهور الواثق بالنفس أمام لجنة فاحصة أو طريقة استخدام الكلمات والتلاعب بها...الخ فتصيب مُحَكِّم ”بالعمى“. وتطلق عَلَيها أحياناًً تَسْمِيَة ”الأخطاء المنطقيَّة“. ويرجع هذا الخطأ إلى النَظَرِيَّة الذَّاتية التي يحملها الملاحظ أو المشخص عن الإنسان عموماً. مثال ذلك الافتراض الخطأ أن الشَخْص الجانح "غبي" فحضور هذه السِمَة الأولى قوية قًدْ يعمي عن النَظَر إلى أنه ليسَ بالضرورة أن يترافق الجنوح مع دَرَجَات من الإعَاقَة ذلك أن كلتا السمتين مستقلتين عن بعضهما. وكذلك الاعتقاد بِأنَّ كُلّ شخص ذكي يعني أنه إنسان طيب الخلق.
  2. انطباع الانسجام في  تَقْوِيم الأشخاص: عِنْدَما يكون هناك أكثر من ملاحظ أو فاحص يشعر الشَخْص أحياناً أنه لا يريد أن يكون مختلفاً عن غيره في حُكْمه، إذ إن ذلك قًدْ يسبب نوع من التواطؤ اللاشعوري لعزل هذا الشَخْص واستبعاده، مما قًدْ يثير لديه القَلَق نتيجة الحاجة الإنسانيَّة اللاشعورِيَّة للانتماء. وتدفعنا هذه الحاجة أحياناً لأن نترك الحُكْم للآخرين، أو نميل لإعطاء أحكام تنسجم مع ما يعطيه الآخرون من أحكام. وتلاحظ هذه الظاهرة كثيراً في الانتقاء المِهْنِيّ والتَدْرِيبي والتعليمي وفي  تَقْوِيم أطروحات الماجستير والدكتوراه. غير أنها تلاحظ كذلك في إطلاق الأحكام التَشّخِيصيَّة، خاصة تلك التي لا تعتمد على  مِحَكَّّات واضحة ومحددة بصورة دقيقة.
  3. أثر التعاقب: أثر مَوْقِف المُلاحَظَة أو التَقْيِيم السابق على التالي: ويعني تأثير التَشّخِيص أو الحُكْم السابق على الحُكْم الذي يليه مباشرة: مثال ذلك في أحد الاخْتِبَارات الشفهية لم يكن أداء أحد الطُلاّب جيداً، فأعطاه الفَاحِص صفر من عشرة. ودخل بعده طالب للاخْتِبَار وكان أداؤه أسوأ من سابقه أيضاً، فما كَانَ من الفَاحِص إلا وأن صاح من النافذة: أحمد عد ثانية أنت تستحق واحد من عشرة فهناك طالب "أغبى" منك.
  4. أثر التضاد: وهو يشبه أثر التعاقب، حيث يَتِم تحريف الحُكْم لأن المَفْحُوص السابق يظهر سِمَة مناقضة للأول. و كلما كَانَ التضاد في السِمَات أقوى كَانَ إدراكه أشد، فيَتِم على سبيل المثال إدراك الطالب الضعيف بين زملائه الأكثر ضعفاً مِنْهُ على أنه ذو إنجاز كبير، أما إِذا كَانَ الطالب نفسه محاطاً بزملاء ذوي إنجاز عال، فتتم مُلاحَظَة ضعف إنجازه بشكل أقوى.
  5. أثر المِزاج السيئ: تؤثر الحالة المِزاجيَّة الشَخْصيَّة على الحُكْم، فعِنْدَما يكون الإنسان في مِزاج جيد فإنه يرى الأمور من حوله من خلال ”نظارة ورديَّة“؛ أي أنه يدرك العالم بالطريقة التي تجعله يظل محافظاً على مِزاجه الطيب، والعكس صحيح في الحالة الأخرى حيث يرى العالم من خلال النظارة السوداء ليبرر لنفسه سبب تعكر مِزاجه: "لا يوجد ما يسر القلب". وهنا تَعْمَل حالتنا المِزاجيَّة على صبغ أحكامنا بنوع من التساهل أو نوع من التشدد.
  6. القوالب النَمَطيَّة الاجتماعِيَّة: وهيَ عِبَارة عَنْ قوالب مصبوغة انفعالياً في تَصَوُّراتنا، نصنف من خلالها الناس الآخرين. وهيَ تسبب في العادة الإبراز المُبَالَغ فيه للفروق بين الجماعات المُخّتَلِفَة؛ والمُبَالَغة في التقليل من الفروق داخل الجماعة الخاصة أو إنكارها، فالإنسان على سبيل المثال يرى أن أسرته أو جماعة أصِدْقائه هم الأكثر انسجاماً والأقل مُشْكِلات، والأسر الأخرى أو جماعات الصداقات الأخرى المُخّتَلِفَة عنه، هي الأكثر تناقضاً والأكثر مُشْكِلات. وهيَ نزعة لاشعورِيَّة وظيفتها التَخْفِيف من القَلَق وتعزيز الشعور بالانتماء، والحفاظ على صُورَة الذَّات ضمن أقل قَدَر من التنافر وتعزيز الافتراضات الذَّاتية حَولَ موْضُوع ما.  
  7. أثر التسامح أو أثر الصرامة: وهو الميل إِمّا للتسامح في الحُكْم أو للصرامة فيه، فالأشخاص الذين يبدون لطيفين للمقوِّم يُمْنَحُون دَرَجَات أعلى وهنا نتكلم على حُصُول تشوه جزئي في صالح السِمَات الإيجَابيَّة في الصورة ككل، فالمدير الذي لا يريد أن ”يؤذي“ موظفيه على سبيل المثال، يقوم ب تَقْوِيم "الاستعداد لبذل الجهد أكثر" من "الجهود المبذولة بالفعل". وفي حالة الصرامة يحصل العكس إذ يحصل تشوه جزئي في صالح السِمَات السَلْبِيَّة في الصورة ككل، فيَتِم التشديد في  تَقْوِيم الموظف النشيط والذي يُقَدِّم إنجازات جيدة أكثر من غيره إلا أنه في الوقت نفسه لا يبدو لطيفاً، أو يبدو ملحاحاً في مطالبه المُتَعَلِّقة بالترقيَّة أو لا يُقَدِّم خدمات خاصة بصورة أكثر صرامة.
  8. أثر القرب: يزداد تعطل الحُكْم كلما كَانَ الاتصال بالملاحظ أكثر وكان التعاون أوثق. ”لا أستطيع أن أصدم أفضل الموظفين عِنْدَي”.
  9. أثر الهرمية: كلما ارتفعت المرتبة داخل الهرم كَانَ الحُكْم على الشَخْص أحسن (أي يَتِم منحه دَرَجَات أعلى)، فالشَخْص ذي المقام العالي يعطى حُكْماً أكثر إيجَابيَّة من الشَخْص ذو المقام المنخفض. ويتعلق تجنب أثر الهرم بشكل جوهري باستعداد المقوم على إنكار الوضع الاجتماعي عِنْدَ التَقْوِيم.
  10. أثر بنيامين: كلما كَانَ المرء أكثر شباباً وأقل زمناً في وظيفته كَانَ الحُكْم عَلَيه أشد صرامة. ويَتِم تبرير ذلك بأنه ليسَ من المعقول لموظف جديد أن يكون جيداً، وعَلَيه أن يثبت نفسه، أو عَلَيه أن يكتسب الخبرة أولاً وبعد ذلك سيَتِم الحُكْم عَلَيه. ويسهم التَقْوِيم الصارم للموظفين الشباب في الاحتفاظ بمبدأ الشيوخ (”أقدمية السن على الكَفَاءَة“) وفق مبدأ: ”كُلّ واحد سيأخذ دوره..."ومن صبر ظفر"
  11. أثر الوضع الراهن (أثر الالتصاق): وهو الميل للتمسك بالوضع الراهن وعَدَم التشكيك به: "فالذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه". حيث يعني الانحراف عن الوضع المألوف أو تغييره، اتخاذ قَرَارات جديدة وتولي المسؤوليَّة وتَحَمُّل الصِرَاعات في مقتضى الحال...الخ. وكل هذا يتطلب التآلف مع عادات وأوضاع جديدة قًدْ لا يكون الشَخْص (أو المؤسسة كمَنّظُومَة) قادراً على إنجازها أو لا يريد ذلك. فنجد أن هذا الشَخْص يَتِمسك بالروتين المألوف ويقاوم التغيير بأي شكل:   ”هذا ما سنقاومه، بقدر ما نستطيع“. كما يُلاحَظ أثر الالتصاق في الصفات أو الألقاب التي يَتِم إطلاقها على الأشخاص؛ فيَتِم إلصاق صفة ما بشخص تظل ملازمة: ”من يكذب مرة.....يكذب دائماً". ويُلاحَظ أثر الالتصاق أحياناً فيمَا يُسَمَّى أيضاً بالأشخاص "الخُبَرَاء" أو "المحترفين"؛ فلا تدع مُتخصصاً يبهرك بقوله“ أنا أفعل هذا منذ عشرين سنة على هذا النحو، أنا أعرف عملي...يُمْكِن للإنسان أيضاً أن يفعل الأَمْر عشرين سنة خطأ“.
  12. أثر الإسقاط: أي إسقاط سِمَة سيئة ذاتية على الآخرين. وهيَ ظاهرة لا تلاحظ في العلاج النَفّسيّ فحسب بل في التَقْيِيم أيضاً، فالبخيل يرى نفسه محاطاً بالبخلاء. كما تلاحظ هذه الظاهرة في الاخْتِبَارات الإسقاطيَّة، فقد برهنت الدراسات أن المشخصين العدوانيين يفسرون الرسوم التي تتضمن عناصر عدوانيَّة بشكل أشد عدائيَّة من غيرهم.
  13. أثر النقل: نقل السِمَات الشبيهة لأشخاص آخرين. ولا يظهر النقل في العلاج النَفّسيّ فحسب. بل في كُلّ المواقف تقريباً، فنحن نجد أن شخصاً ما لطيفاً أو وقحاً من دون أن نلاحظ أنه يذكرنا بشخص ما. وفي التَشّخِيص إذا لم يكن المشخص واعياً للانطباع الأول فإنه قًدْ فإن ذلك قًدْ يؤثر على مجرى التَشّخِيص ككل. ومن الأمثلة على تأثير النقل على العَمَلِيَّة التَشّخِيصيَّة. مثال ذلك: تم عرض تلميذ على المُتخصص النَفّسيّ. الشكوى: كَانَ التلميذ عادياً وغير مُلِّفِت للنَظَر، وأداؤه عادي، إلا أنه عِنْدَما انتقلت المُعَلِّمة وجيء بمعلِّمة جديدة تراجع أداؤه وساء سُلُوكه بشكل متطرف. وعلى الرَغْمَ مِنْ قيام المُتخصص بإجراء الاخْتِبَارات والجلسات التَشّخِيصيَّة مع الطفل إلا أنه لم يستطع تَفْسِير سُلُوك التلميذ. تضمنت سِيْرَة التلميذ إساءة معاملة من الأم وإهمال، فقام المُتخصص النَفّسيّ بطلب الأم للمُقابَلَة. وما كاد المُتخصص يرى الأم حتَّى بد وكأن "غشاوة انقشعت عن عينه"، فقد كَانَ التشابه بين المُعَلِّمة والأم كبيراً جداً.

 

 


[1] مصطلح إغريقي يعني: التذكر، الاستدعاء، الذِكِر. وهناك مفهوم آخر يُسْتَخْدَم للتتبع Catamnesis وهو متابعة التغيرات بعد العلاج والتأكد من استقرارها واستمراريتها.

[2] مصطلح لا تيني ويعني الفَحْص، الاستطلاع، الاستكشاف، التقصي، البحث عن حقيقة الأمر